فيلم «أميرة»: النطف المحرّرة وحرّيّة الفنّ | آراء

من فيلم «أميرة»

 

يضعنا في دائرة التشكيك

أصدرت «الحركة الوطنيّة الأسيرة» في سجون الاستعمار الإسرائيليّ، الأربعاء، بيانًا حول فيلم «أميرة» للمخرج المصريّ محمّد دياب، الّذي عدّه كثيرون، ومن بينهم عوائل الأسرى وزوجاتهم، مسيئًا لنضالات الحركة الأسيرة، ولزوجات الأسرى وبناتهم وأبنائهم، وتحديدًا نضال الأسرى في ما يتعلّق بـ «النطف المحرّرة».

أكّد بيان «الحركة الأسيرة» أنّها تواصلت مع منتج الفيلم الرئيسيّ عام 2019، وكانت إحدى زوجات الأسرى الّتي حَمَلَتْ في أحشائها آنذاك جنينًا من  «نطفة محرّرة» إحدى قنوات التواصل، مبدية اعتراضها على الحبكة المسيئة، وفي الوقت نفسه، عارضةً خدمات «الحركة الأسيرة» الكاملة للمساعدة في توفير الرواية الصحيحة، والّتي تتنافى مع ما ذهب الفيلم إليه من حبكة تتمحور حول قصّة فتاة وُلِدَت نتيجة نطفة مهرّبة، وبعد بلوغها الثامنة عشرة، طَلَبَ الأسير من الأمّ إعادة التجربة مرّة أخرى، وحينها اكتُشِفَ أنّ الأسير عقيم، وأنّ النطفة الأولى كانت لضابط إسرائيليّ!

على الرغم من أنّ صنّاع الفيلم أكّدوا أنّ القصّة مجرّد خيال، إلّا أنّ مجرّد طرحها على هذا النحو تسبّب بإساءة بالغة عبّرت عنها زوجات الأسرى وعوائلهم، وقد عقّبت زوجة الأسير وليد دقّة، سناء موسى سلامة، أمّ ميلاد المولودة من «نطفة محرّرة»، على الفيلم في فيديو قصير نشرته عبر صفحتها على فيسبوك، مؤكّدة "أنّه وبما أنّ الفنّ يجب أن يكون صاحب رسالة، فأنا أجد صعوبة في فهم الهدف والرسالة الّتي يريد فيلم مسيء كهذا إيصالها؛ فهذا الفيلم يسيء للأسرى ولقضيّتهم، وسواءً كان دراما وغير حقيقيّ، أو أيّ نوع آخر من أنواع الأفلام، فليس من الممكن تمرير أيّ قصّة والتعايش معها. عندما يتمكّن شعب من ابتداع أساليب للحياة من العدم كـ ‘النطف المحرّرة‘، فذلك من شأنه أن يزيدنا فخرًا ويزيد شعور شبابنا، وأجيالنا الفلسطينيّة، والأسرى وعائلاتهم بالفخر. ومن المؤكّد أنّ كلّ جانب مشرق من نضالات شعبنا ستحاول إسرائيل ضربه والتشكيك به، وهذا الفيلم يأتي ليضرب هذا الجانب المشرق من نضالاتنا، ومن المؤسف أنّه يُنَفَّذ عن طريق أناس منّا، من مخرجه المصريّ، ومنتجه الفلسطينيّ، وطاقم التمثيل الفلسطينيّ والأردنيّ".

وأضافت سلامة: "في هذا الفيلم إساءة كبيرة للأسرى، ولا يمكن قبوله تحت أيّ مبرّر؛ لا حرّيّة رأي، ولا فنّ، ولا ثقافة، ولا مهنيّة؛ فالفنّ قبل كلّ شيء رسالة، وأن تكون فنّانًا غير منحاز لشعبك بل للرواية الأخرى، كما هو حاصل في هذا الفيلم الّذي يشكّل جزءًا من الرواية الإسرائيليّة، فذلك يعني أنّك متماه مع هذه الرواية".

وقالت سلامة أيضًا: "لقد اختار الناس الوقوف ضدّ هذا الفيلم المسيء والمُشوِّه، وآمل أن لا تضطّر زوجات الأسرى، وأمّهات الأطفال والطفلات الّذين واللواتي وُلِدوا/ ن بهذا الشكل، أن لا يضطرّوا إلى أن يثبتوا شيئًا أمام شعبهم؛ فهؤلاء الأطفال يمرّون أصلًا بفحص DNA ليتمكّنوا من زيارة آبائهم في السجون، ولا مانع لدينا بعمل هذا الفحص غصبًا ليتمكّن أطفالنا من زيارة آبائهم في السجون، لكن يؤلمنا أن تضطّر زوجات الأسرى وأطفالهم إلى إثبات أمور بديهيّة ومفهومة لشعبهم ولعائلاتهم، لأنّ هذا الفيلم يضع هؤلاء الأطفال في دائرة التشكيك والتساؤل؛ لذلك نحن نقف ضدّ الفيلم، وضدّ مَنْ عمل عليه، وأخرجه، وأنتجه، ونأمل أن يتمّ سحبه. ونتوجّه للحكومة الأردنيّة لمنع الفيلم من تمثيل الأردنّ في حفل ‘الأوسكار‘ كي لا يحصل على شهرة عالميّة".

 

أسرة فيلم «أميرة»: أوقفنا العرض ونطالب بفحص الفيلم

لم يتأخّر صنّاع الفيلم عن التفاعل مع عاصفة الانتقادات الّتي طالته خلال اليومين الماضيين؛ ففي بيان نشره مخرج «أميرة»، المصريّ محمّد دياب، على صفحته الشخصيّة في فيسبوك، أكّدت أسرة الفيلم أنّ الأسرى الفلسطينيّين ومشاعرهم يشكّلون الأولويّة والقضيّة الرئيسيّة لديهم، وأنّه تقرّر إيقاف أيّ عروض للفيلم، والدعوة إلى تأسيس لجنة مختصّة من قبل الأسرى وعائلاتهم لمشاهدته ومناقشته. مؤكّدين، إضافة إلى إصرارهم على أنّ الفيلم لا يشكّك في «أطفال الحرّيّة»، على ثقتهم بنقاء ما قُدِّمَ في الفيلم، دون أيّ إساءة للأسرى وللقضيّة الفلسطينيّة.

كان الفيلم قد عُرِضَ للمرّة الأولى في أيلول (سبتمبر) 2021 في «مهرجان فينسيا»، وكذلك عُرِضَ في «مهرجان الجونة»، و«مهرجان قرطاج». وشاهده، بحسب بيان أسرة الفيلم، آلاف من الجمهور العربيّ والفلسطينيّ، لكنّ الانتقادات الّتي طالته لم تبدأ حتّى اختياره لتمثيل الأردن في «الأوسكار».

رصدنا في فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة آراء مجموعة من الكاتبات والكتّاب، والعاملات والعاملين في حقل الثقافة الفلسطينيّة، كما توجّهنا إلى بعضهم وسألناهم موقفهم، وسط عاصفة الانتقادات الّتي طالت فيلم «أميرة»، وعلاقة الفنّ بالقضايا الوطنيّة، ومن بينها قضيّة الأسرى وتمثيلها في السينما الفلسطينيّة، وحول منع الفيلم من العرض وسحبه.

 

النقد لا المنع

عامر حليحل

لا أعرف مخرج وكتّاب فيلم «أميرة»، لكن أعرف مجموعة من الأصدقاء الممثّلين في الفيلم، الّذين لا يستطيع أحد التشكيك في وطنيّتهم ونواياهم؛ إذ لا يُعْقَل أنّ صالح بكري وعلي سليمان وريم تلحمي وزياد بكري وباقي الزملاء، يريدون تشويه صورة الأسرى أو يعملون وفق أجندة صهيونيّة! هذا كلام عيب، وهم كما باقي طاقم الفيلم من غير الفلسطينيّين، نواياهم لا يمكن أن تكون ضدّ الأسرى، أو يعملون وفق أجندة غير وطنيّة، حتّى لو أخطأوا وضلّوا الطريق في بناء الفيلم وحبكته (هذا إن أخطأوا، ﻷنّني لم أشاهد الفيلم ولا أعرف). الكثير الكثير من الأفلام والأعمال الفنّيّة تفقد طريقها وهدفها بغير قصد؛ الكثير من النصوص السينمائيّة تكون مكتوبة بشكل معيّن، لكنّ مراحل التصوير والمونتاج تحتّم تغييرات في المبنى والنصّ ليست دائمًا في صالح المنتج النهائيّ.

أنا مع النقد، حتّى لو كان قاسيًا، ﻷنّ الفنّ بالنسبة إليّ، قبل كلّ شيء، مساحة للحرّيّة، وهذه الحرّيّة من حقّ الطرفين؛ الطرف المنتج والطرف المتلقّي. للجمهور كلّ الحقّ في نقد الفيلم (كنت أودّ لو أنّ النقد يأتي بعد المشاهدة). مسموح لأيّ إنسان أن يعبّر عن رأيه، مهما كان قاسيًا، في مادّة فنّيّة، فيلم، مسرحيّة، رواية، قصيدة أو أغنية، هذا حقّ بالنسبة إليّ ينبع من قدسيّة حرّيّة التعبير الّتي نرجوها نحن معشر الفنّانين، ونطلبها من الناس ومجتمعاتنا، فإن لم نكن نحن بنفس الرحابة في تلقّي النقد، إذن ثمّة شيء معطوب في تفكيرنا ودورنا. ومسموح للفنّان أن يتناول أيّ قصّة في الدنيا، وأن يحاول سردها بطريقته وأسلوبه، على أن يكون عارفًا بأنّه قد يكون محطّ نقد قبل أن يكون محطّ إعجاب. لكن ليس من الحقّ أن يصبح صنّاع الفيلم، في لمحة عين، خونة وعملاء وغير شرفاء، ويقوم البعض بشتمهم وسبّهم وتهديدهم، هذا لا يُعْقَل أبدًا، وهذه ليست حرّيّة تعبير، حتّى لو تملّك الناس الحرقة من قصّة فيلم لم يشاهدوه. مؤسف جدًّا، ومخيف حتّى، أن ترى كمّ العنف في توجّه البعض، وكم عدم الاكتراث لما قد يسبّبه نوع الكتابة هذا من ضرر شخصيّ وعامّ أيضًا.

أمّا بالنسبة إلى المنع، فأنا ضدّ المنع طبعًا، ﻷنّ المنع يثبت الجهل، الجهل في الحكم على الفيلم، وهو ظلم للناس في أن تعرف وتتعرّف على مادّة سينمائيّة ‘إشكاليّة‘ كي تحكم بنفسها عليه. ثمّ إنّ الناس ليسوا قطيعًا، لتقوم جهة لم يخوّلها أحد بمنعهم من مشاهدة فيلم أو قراءة كتاب؛ ﻷنّ هذه الجهة ارتأت أنّها تعرف مصلحة الناس أكثر من الناس أنفسهم. للناس الحقّ في أن تحكم بأنفسها؛ نحن شعب يطمح ويحلم بالحرّيّة، والقمع لا ينتج حرّيّة، بل يراكم قمعًا فوق قمع.

وإذا كان الفيلم مسيئًا، فإنّ المنع لن يغيّر هذا، والمنع لن يمنع الناس من الوصول إليه لمشاهدته. أعتقد أنّ الأفضل أن يناقش الناس الفيلم عن معرفة، من أن تبني خوفًا جاهلًا من شريط سينمائيّ.

عامر حليحل - مخرج وممثّل.

 

مشاعر الأسرى أولويّة

علا الشيخ

كتبت رأيي حول الفيلم الشهر الفائت، وتوقّعت بعد عرضه في الأردنّ تحديدًا، أنّ ردّة الفعل ستكون كبيرة، على الرغم من الحفاوة الّتي كانت حاضرة بعد إعلان الفيلم مُمَثِّلًا للأردنّ في «الأوسكار»، لكن لم يشاهده الناس حينها، وحاليًّا بعد أن أعلن مخرج الفيلم محمّد دياب وقف عرض الفيلم، وإعلان «الهيئة الملكيّة للأفلام» سحب ترشيحها له لتمثيل الأردنّ في «الأوسكار»، فإنّ السؤال حول منع العرض لم يعد مجديًا، لأنّ فريق العمل نفسه قرّر وقفه، والموضوع هنا له علاقة مباشرة برغبة الأسرى، الّذين يعانون في سجون الاحتلال، ويتعرّضون لأعتى وسائل التعذيب النفسيّ والجسديّ، ومشاعرهم هي الأولويّة، وأيّ رأي يخالف تلك المشاعر لا مكان له في حضرة كلّ هذا الغضب.

الفيلم مصنوع بشكل متواضع فنّيًّا، وهو ما لم يتطرّق إليه مَنْ شاهد الفيلم، وكان من الممكن التطرّق إليه، لكنّ الحبكة الرئيسيّة الّتي تتعلّق بأسمى أنواع التحدّيات الّتي يمارسها الأسرى، والمتمثّلة في تهريب النطف، هي ما يلفت الانتباه فيه. وجدت أنّ فريق الكتابة والمخرج ألهمتهم الفكرة، لكنّهم لم يُحَضِّروا لها جيّدًا؛ فعمدوا إلى خيالهم، وهو خيال كان حاضرًا ليس فقط على مستوى هذه الجزئيّة، بل في ما يتعلّق بأمور أخرى، ممّا حوّل الموضوع إلى محاولة فهم أسباب هذا النوع من الخيارات الفنّيّة. إضافة إلى أنّ تناول موضوع النطف بهذا الشكل، وبهذا التوقيت الحسّاس بالنسبة للفلسطينيّين الّذين وصلوا إلى قناعة بأنّ العالم تخلّى عنهم، بل والدول العربيّة أيضًا، يجعل من الصعب قبول ادّعاء فريق العمل بأنّ هذا مجرّد خيال.

أعي تمامًا حرّيّة الكاتب في الذهاب بخياله ونسج قصّته كما يريد، لكنّ الموضوع يختلف هنا؛ لأنّ الخيال بُنِيَ على واقع، والواقع ليس ورديًّا، بل مليء بالشوك. كذلك فإنّ عمليّة تهريب النطف ليست سهلة، بل تحتاج تخطيطًا يستغرق أحيانًا سنوات لكي ينجح. ومع ذلك، فالحلّ الّذي خرج به صنّاع العمل، وصُدِمَ به المتلقّي، أنّ النطفة اسْتُبْدِلَتْ، وهنا أصبحت ردّة الفعل اجتماعيّة لا سياسيّة فقط، بسبب الاقتراب من موضوع حسّاس له علاقة بالمرأة.

في المقابل، وبعد كلّ ردّات الفعل من قبل مَنْ شاهد أو لم يشاهد الفيلم، فإنّ تخوين فريق العمل مشكلة كبيرة أيضًا، وإلغاء كلّ ما قدّموه، خاصّة فيما يتعلّق بفلسطين، أمر لا يجوز؛ ففي هذا العمل أسماء مهمّة كان لها دور كبير في إيصال الصوت الفلسطينيّ عبر السينما في المحافل العالميّة؛ هؤلاء ليسوا خونة ولا مرتزقة، والسباب عليهم أيضًا وتجريحهم يستحقّ الوقوف ضدّه.

علا الشيخ – ناقدة سينمائيّة.

 

مَنْ لا يروي روايته، سيأتي مَنْ يرويها عنه

خالد جمعة

لم أشاهد الفيلم، لكنّ تصريحات العاملين على الفيلم أكّدت الفكرة الّتي تداولها الناس؛ فهل هنالك حرّيّة مطلقة للفنّ؟ أم أنّ ثمّة ضوابط يجب على الفنّ أخذها بعين الاعتبار؟

سألت أحد الأسرى مرّة عن مبرّر تهريب النطف، فأجابني ببساطة أنّ معظم المعتقلين الّذين يهرّبون النطف هم من ذوي الأحكام العالية، ولو افترضنا أنّهم سيتحرّرون يومًا ما، فستكون أعمارهم في السبعينات أو الثمانينات، وزوجاتهم كذلك، ووقتها ستكون الزوجات قد فقدن القدرة على الإنجاب؛ لذا فقد أصبح تهريب النطف ضرورة، فمن حقّ السجين أن يرى أولاده وامتداده الإنسانيّ يمشي على الأرض.

ولنعد إلى موضوع الفنّ وحرّيّة الفكرة، وعلاقة العالم بها مع اختلاف مستويات هذه العلاقة؛ ففي أكثر الدول ديمقراطيّة ثمّة مناطق من الممنوع المسّ بها، مثل الهولوكست على سبيل المثال، والمنع هنا بمعنى أنّه من الممنوع إبداء وجهة نظر معيّنة تجاهها، فيمكنك تناول الهولوكست من ناحية التعاطف الإنسانيّ، لكن لا يمكن تناوله نقديًّا.

في التحقيق مع محمّد سباعنة ذات مرّة، حسبما كتب هو، قال له المحقّق الإسرائيليّ وهو يعرض إحدى لوحات محمّد حول تهريب النطف: "هل تصدّق أنّهنّ يُنْجِبْنَ من نطف مهرّبة؟". وذلك ما تحاول إسرائيل ترويجه إعلاميًّا، بعد عجزها عن اكتشاف طريقة التهريب.

نحن مع حرّيّة الفنّ، لكن ليست الحرّيّة على إطلاقها، أمّا الضوابط الّتي يجب أن توضع على تلك الموضوعات، فهي ليست بالضرورة رقابيّة أو أخلاقيّة، إنّما ضوابط تتعلّق بالضمير الوطنيّ العامّ، بالقضايا الّتي تمسّ أوتارًا حسّاسة في قضايا وطنيّة كبرى، بالقضايا الّتي تشوّه فعلًا نضاليًّا أصيلًا.

في النهاية، وكما قال إبراهيم نصر الله في إحدى رواياته: "مَنْ لا يروي روايته، سيأتي مَنْ يرويها عنه". وهذه ملاحظة موجّهة إلى الفنّانين والسينمائيّين الفلسطينيّين: اجعلوا رواياتكم الفلسطينيّة تتصدّر المشهد، بدلًا من أن يأتي غيركم ويرويها بطريقته، الطريقة الّتي غالبًا لن تكون في صالح روايتكم.

خالد جمعة – كاتب وشاعر.

 

بحثًا عن «الأوسكار»

نورس أبو صالح

يبدو أنّنا مرّة أخرى أمام  فيلم جديد يبحث عن مكان له في وسط «التابوهات»، أي المحرّمات. وفي عالم صناعة الأفلام، عندما نقول محظورات، فهي محظورات ليس في عرف الشريعة أو المعتقد فقط، وإنّما محظورات مجتمعيّة وسياسيّة. وبما أنّ إثارة الجدل إحدى نقاط الوصول الذهبيّ للفيلم، وإحداث الضجيج هدف معلن وغير معلن، فإنّه يتمّ البحث عن زوايا في هذه المحظورات لطرحها.

المشكلة في فيلم «أميرة»، في إطلاق الخيال لأمر لا يمكن حدوثه، في قضيّة مقدّسة، تتعلّق بالأسرى من جهة، وفي الطعن بالنَّسَبِ من جهة أخرى، وتسريب الشكّ إلى ذوات وُلِدَتْ رغم أنف المحتلّ في ظروف مركّبة، واستسهال النفاذ عبر هذا «التابو» لصناعة قصّة "حتكسّر الدنيا"، بينما يتحسّس المنتجون رؤوسهم كلّما نفذ النصّ في فيلمهم إلى تابو سياسيّ أو مقاربة للحرّيّات في بلادهم.

إنّ نقص المعلومات الواضح، وتحوير النصّ بعيدًا عن الواقع للوصول إلى سيناريو مفصّل لخدمة هذا التحوير، أمور تُعَدّ سذاجة وجهلًا فنّيًّا، وإنّ فلسطيننا مليئة بالقصص الّتي تصلح لأن تكون فيلمًا مبنيًّا على قصّة واقعيّة.

لكنّ وصفة «الأوسكار» معروفة وواضحة، وخلطة الوصول إلى الصنم المعبود «الجائزة»، تتقدّم لدى منتجين ومخرجين من هذا النوع على المعنى الحقيقيّ الّذي يستطيع الفنّ أن يحمله ويوصله. لكن لن يصنع أفلامنا إلّا نحن، وهذا الـ «نحن» يبدو أنّه نادر، وإن كانوا يشبهوننا، لكنّهم ليسوا نحن، وقصصهم الّتي في الأفلام لا تحمل من قصصنا إلّا الاسم والفكرة المشوّهة، والبقيّة لهاث خلف توليفة «الأوسكار» وقصّة شرقيّة بقالب غربيّ، وهذه ليست المرّة الأولى يا سادة.

نورس أبو صالح – مخرج.

 

المنع سيؤدّي إلى إجهاض المختلف

محمد أبو شكر

تعدّ السينما عمومًا مرآة للشعوب، ووسيلة ثوريّة مناهضة لأيّ هيمنة فكريّة، ومساحة يجب أن تكون مفتوحة للجميع لإبراز أفكارهم وأطروحاتهم. ما يثير القلق بخصوص فيلم «أميرة»، ليست فكرة الفيلم نفسها، بل ردود الفعل الإقصائيّة الّتي حصلت، والمطالب بمنع عرض الفيلم، ومحاسبة القائمين عليه.

تثير ردود الأفعال هذه تساؤلات كثيرة في ما يخصّ السينما العربيّة عمومًا ومساحة الحرّيّة داخلها. يمكننا نقد الفيلم، وفكرته، وتفنيد طريقة عرضه، وتصويره، وإخراجه، وكلّ ذلك يعدّ أمرًا صحّيًّا وطبيعيًّا يمكن أن يدفع بصنّاع وصانعات الفيلم العربيّ لتفادي أخطائهنّ أو أخطاء غيرهم. وهنا تبرز أهمّيّة النقد السينمائيّ. لكنّ ما رأيناه خلال اليومين السابقين لا يعكس نقدًا سينمائيًّا، بل سياسة إقصائيّة وتشهيريّة أيضًا، قد تشكّل نقطة تحوّل كبيرة على الصعيد السينمائيّ، والّتي قد تؤدّي إلى تقنين الأفكار والالتزام بنمط معيّن منها خوفًا من ردود الفعل.

ذلك ما سيؤدّي إلى إجهاض طرح أيّ فكرة أو رؤية جديدة تساهم في عمليّة إثراء الأفكار الّتي يساهم فيها الفنّ عمومًا، وقد يدفع وضع تلك الحدود العديد من المخرجين والمخرجات إلى تجنّب طرح قضايا شائكة وحسّاسة، وتفضيل الالتزام بقصص طُرِحَت من قبل تلافيًا لأيّ ردّ فعل إقصائيّ.

ويجب ألّا ننسى أنّ الفيلم لم يُعْرَض بَعْدُ للعموم، وأنّ معظم مهاجميه لم يروه. لذلك فإنّ من المنطقيّ مشاهدة الفيلم قبل الحكم عليه، وأن نحاول عدم تقليص المساحة الّتي لدى مبدعينا، خاصّة أنّ أثر السينما الفلسطينيّة، والإعلام الفلسطينيّ عمومًا، أصبح واضحًا عالميًّا، وهو ما لُمِسَ بعد أحداث حيّ الشيخ جرّاح، حيث لعبت الميديا دورًا مهمًّا في الترويج للقضيّة الفلسطينيّة.

من ناحية أخرى، وهنا لا أُبْدي رأيي بالفيلم بشكل كامل، في انتظار فرصة مشاهدته، لكنّ فكرة سلب النطف من الفلسطينيّين، هي صورة رمزيّة لمحاولة المحتلّ اغتصاب أيّ إمكانيّة للوجود الفلسطينيّ، ومحاولة منعه حتّى من أبسط حقوقه.

محمّد أبو شكر – مصوّر.

 

مسؤوليّة الفنّ

علي مواسي

لم نشاهد فيلم «أميرة» لنحكم، وليس من حقّنا أن نحكم على شيء لم نشاهده، وليس من حقّنا أن نطالب بمنع ما لا نعرفه، أو أن نصفّق لأجهزة أمنيّة أو رقابيّة لأنظمة سياسيّة، كان وجودها ولا يزال من الأسباب الفعليّة لسجون الفلسطينيّين، كبيرها وصغيرها – أن نصفّق لها لأنّها تمنع إنتاجًا فنّيًّا ما مغازلة لغضبنا، كما تُتْقِنُ فعل ذلك دائمًا، حتّى وإن ظننّا أنّ هذا الإنتاج يمسّ ببطولاتنا، وقداساتنا، ورموزنا الّتي تمنحنا أوكسوجين وجودنا الجماعيّ، والّتي من حقّنا أن ندافع عنها ونحميها، لأنّنا نعرف تحديدًأ أنّها خلاصة مكثّفة للحياة، والحرّيّة، والعدالة؛ فهي لا تتجنّى على أحد، ولا تبني نفسها على حساب أحد، بل تقاوم هَدْمَها ومحاولات إماتتها. لكن، هذا الدفاع بالهجوم على إنتاج فنّيّ ما، يمكن أن يكون مجديًا، ومقنعًا، وبانيًا، فقط بعد أن تتوفّر لنا الأسباب الّتي تمكّننا من التيقّن بأنّه فعلًا يعادينا، وليس بناءً على التكهّن والافتراض، وأن يكون دفاعنا أوًّلا بالتوجّه إلى منتج/ ي العمل نفسه، أو المشارك/ ين فيه.

هل من حقّنا أن نغضب، وننفعل، ونتّهم، ونصرخ، ونلعن؟ نعم، نحن ضحايا عنف كثيف، ويوميّ، ومستمرّ، ومتراكم منذ عقود طويلة، وتوقّعنا من أنفسنا أن نكون دائمًا وفي كلّ حال هادئين، ومعقلنين، ومتأنّين، وأهل حكمة، أمر فيه تجاهل لحالنا؛ لكن في الوقت نفسه، نملك كلّ أدوات إحسان إدارتنا لخلافاتنا مع مَنْ نرفض أفعالهم ومواقفهم، خاصّة إن لم نكن متيقّنين ونملك الأدلّة على أنّهم في المعسكر الهادم والمعادي لنا، مانحين حتّى لإمكانيّة الخطأ والخلل الّتي بيننا والّتي فينا، فرصة لمراجعة النفس، دون فرضٍ، ولا تسلّط، ولا اجتثاث، ولا أحكام ميدانيّة. من حقّ مَنْ نتّهمه أيضًا أن يُسْمَع، ويوضّح، ويتراجع، ويُسامَح، وأن يحاججنا ويرفض ادّعاءاتنا. هل هذا تصوّر لما هو مثاليّ وغير واقعيّ؟ لا أعتقد ذلك، إن فكّرنا بكلّ النماذج المتاحة في العالم، للقاءات، وإعادة ترتيب علاقات، وترسيم حدود، وصناعة توافقات، حتّى بعد حروب ونزاعات أهليّة، وليس فقط على مستوى نقاش داخليّ حول إنتاج فنّيّ ما.

عندما نقول: أسرى، عوائل أسرى، أمّهات وزوجات أسرى، أزواج وأبناء وأقارب أسرى، لأيّ شعب، ولدى أيّ جماعة مناضلة من أجل تحرّرها، وليس فقط في فلسطين، علينا أن نفكّر ألف مرّة، قبل أن نُقْدِمَ على شيء يمكن أو يُحْتَمَل أن يمسّ بمشاعرهم ومعانيهم البطوليّة (معانينا)، وأن نستشيرهم في حال أردنا أن ننتج أيّ شيء عنهم؛ فهم ليسوا للفُرْجَة، وقصصهم لا تتوقّف على/ لا تنحصر في المفارقات المثيرة الّتي فيها، وبينهم الفنّانون، والمبدعون، والأكاديميّون الّذين يمكن أن يكونوا مرجعيّة لنا. علينا أن نحترم البحث المرافق للفنّ، والّذي يسبق إنتاجه، أن نقصدهم، ونطرق أبوابهم، ونفحص ونستأذن، ونجد حلولًا فنّيّة تحافظ على فنّيّة الفنّ، ولا تدخلنا في الكليشيه، لكن دون أن يكون فنًّا منزوع السياق، أو متعاليًا على النّاس الّذين يُنْتَج حولهم وعنهم.

علي مواسي – شاعر وباحث.

 

خدمة الرواية الفلسطينيّة

سماح بصول

لم أشاهد فيلم «أميرة»، لكنّي أتفهّم الجدل الدائر حوله، فهو  أشبه بذبح إحدى البقرات المقدّسة ويبدو أنّ فيه مسّ بقضيّة تتمتّع بإجماع وخصوصيّة قد تصل حدّ القدسيّة، وأقصد بها الأسرى في سجون الاحتلال.

أنا أؤيّد التعامل مع صمود الأسرى وبطولاتهم اليوميّة في تحدّي الاحتلال وأذرعه، وتهريب النطف إحدى هذه البطولات، لكنّني، بدوافع عاطفيّة كما غيري من الفلسطينيّين، وكذلك بدوافع أخلاقيّة، ومهنيّة، وسينمائيّة، أعارض الإسفاف، والسطحيّة، واستخدام الإثارة الرديئة والمسيئة في عرض هذا الموضوع بالغ الخصوصيّة. مثال على ذلك، ما جاء في فيلم «بونبونة» لراكان مياسي، حيث اختار المخرج تقديم مشهد تقوم فيه زوجة الأسير باستثارته جنسيًّا في محادثة عبر سمّاعة الهاتف خلال زيارتها له، كي يتمكّن من إنتاج نطف وتهريبها.

حتّى لو ادّعينا أنّ الفنّ حرّ في اختيار طروحاته، على هذه الطروحات أن تخدم روايتنا الفلسطينيّة وتدعمها طالما أنّنا نعيش في ظلّ احتلال، وفنّنا يتغذّى من هذا الواقع. عندما نتمتّع بالحرّيّة الخالصة والاستقلال الحقيقيّ، يمكن حينها معالجة أيّ قضيّة من منظار نقديّ أو خياليّ؛ فمسألة التوقيت فارقة جدًّا هنا.

الفيلم القيّم في نظري يسير في خطّ نحو رسالة واضحة، ولا يتعثّر بتقديم مشاهد تحيد بالنظر عن القضيّة المركزيّة، فلا تترك أثرًا، أو معرفة، أو تضامنًا من قبل المشاهد. ولأنّ السينما تتمتّع بقدرة كبيرة على إثارة الرأي العامّ حول قضيّة ما، فهذا يُلْزِمُ صانع الفيلم بالتمتّع بالمسؤوليّة أوّلًا، ومن ثمّ القدرة، والذكاء، والحنكة في التعامل مع أيّ قضيّة شائكة يختار طرحها. واختيار جانب من قضايا الشعب الفلسطينيّ على يد صنّاع السينما العرب، يجب أن يحصل بحساسيّة وتروٍّ في اختيار الروايات وكيفيّة صياغتها. ويجدر بكاتب السيناريو والمخرج دراسة الموضوع بتعمّق وجدّية قبل اختيار أسلوب معالجته دراميًّا.

سماح بصول – ناقدة سينمائيّة.